تعزيز النفوذ الإستخباراتي داخل الطبقات الحساسة في البنية الأمنية والاجتماعية الإسرائيلية
شهدت السنوات الأخيرة تصاعداً لافتاً في التوترات والحروب الظلية بين إيران والكيان الصهيوني. هذه المواجهات لا تقتصر على المعارك العسكرية المباشرة، بل بات المجال الاستخباراتي والتجسّسي أحد أبرز ميادين الصراع.
ومن خلال اعتماد استراتيجيات معقدة وموجّهة، تمكنت إيران من تعزيز نفوذها داخل الطبقات الحساسة في البنية الأمنية والاجتماعية الإسرائيلية، ومن خلال شبكة من العملاء المحليين جرى جمع معلومات حيوية. ما يجعل مسار النفوذ الإيراني لافتاً هو الضعف الداخلي للمجتمع الإسرائيلي الصهيوني وأزمة شرعية الكيان.
وتشير التحليلات إلى أنّ العديد من سكان الأراضي المحتلة لا يثقون بمستقبل الكيان ولا بقدرته على البقاء، ويشعرون بأن البنية السياسية والاجتماعية فيه تنهار. انعدام الثقة هذا، إلى جانب الأزمات الاقتصادية والخلافات الدينية والعرقية والضغوط الناتجة عن المواجهات المستمرة مع الفلسطينيين، خلق بيئة مناسبة للاختراق والتجنيد.
تشير التحولات الاستخباراتية بين إيران وإسرائيل خلال الأعوام الأخيرة إلى أنّ الطرفين منخرطان في حرب خفية معقدة ومتعددة المستويات. ففي حرب الـ12 يوماً الاخيرة، تمكنت إسرائيل من عرض شبكات نفوذها داخل إيران؛ شبكات تضم عملاء إيرانيين وغير إيرانيين جرى استغلالهم للحصول على معلومات عن المنشآت النووية، وفعاليات العلماء، بل وحتى البنى الدفاعية الإيرانية. بعض هؤلاء العملاء لعبوا دوراً في نقل معدات وتكنولوجيا سرّية استخدمت في العمليات الظلية ضد إيران.
وبعد انتهاء الحرب، أطلقت طهران حملة اعتقالات وتطهير واسعة بهدف كشف عناصر الاختراق. وفي الوقت نفسه، وسّعت إيران أيضاً حملتها لتجنيد عناصر داخل إسرائيل.
وتشير التقارير الأمنية الإسرائيلية إلى أن محاولات طهران لتجنيد سكان إسرائيليين غالباً ما تتم عبر الفضاء الإلكتروني بدوافع مالية، وقد تسارعت هذه الجهود منذ عام 2020. ووفق البيانات المسجّلة، جرى منذ عام 2013 حتى 2025 كشف نحو 39 قضية تجسّس أو ملفاً أمنياً مرتبطاً بإيران داخل إسرائيل، 31 منها شملت مواطنين إسرائيليين.
الكثير من هؤلاء لم يكلفوا بمهام خطيرة، بل بمهام بسيطة كالتقاط صور لقواعد عسكرية أو رصد تحركات الجيش أو حتى تعليق ملصقات مناهضة للكيان؛ لكن منذ 2024 أصبحت المهام أكثر خطورة.
استراتيجية النفوذ الإيراني في إسرائيل
بدأ النفوذ الإيراني في إسرائيل منذ سنوات، لكن وتيرته تسارعت بدءاً من العقد الثاني من الألفية الثالثة. وتشير التحليلات القائمة على البيانات إلى أنّ إيران تستغل الاستهداف الرقمي، وشبكات التواصل الاجتماعي، والاتصالات عبر الإنترنت لتجنيد الجواسيس. تلعب منصات مثل تلغرام وواتساب وإنستغرام وفيسبوك دوراً محورياً في هذه الاستراتيجية، وتمكّن إيران من استقطاب أفراد بدافع مالي أو اجتماعي أو نفسي.
تركّز إيران بشكل خاص على الأشخاص الذين يعانون من مشاكل مالية أو اجتماعية أو نفسية. وتُظهر دراسة ملفات التجسس الأخيرة أن معظم العناصر المجندة ينتمون إلى الأقليات، أو مهاجرين جدد، أو أفراد يشعرون بانتماء ضعيف للمجتمع الإسرائيلي. إن أزمة الثقة في الكيان والقلق بشأن المستقبل تمثل عوامل مهمة تدفع الأفراد للتعاون مع إيران. وتشير التحليلات السوسيولوجية إلى أنّ إيران تستفيد من ضعف الانسجام الاجتماعي وضعف الهوية داخل المجتمع الإسرائيلي، وتستغل ذلك كنافذة للاختراق.
نماذج واقعية لحالات نفوذ وعمليات تجسّس
قضية الوزير الإسرائيلي الجاسوس لصالح إيران، غونين سيغيف: تُعد قضية غونين سيغيف، وزير الطاقة الإسرائيلي الأسبق، من أهم ملفات الاختراق الإيراني داخل البنية السياسية والأمنية للكيان. فقد اعترف في نهاية المطاف بالتجسس لصالح إيران وتوصل إلى تسوية لتجنب محاكمته بتهمة «الخيانة».
ووفق التقارير الرسمية، أقام سيغيف خلال إقامته في نيجيريا علاقات مع دبلوماسيين إيرانيين؛ بداية كطبيب في أبوجا، ثم من خلال اجتماعين مباشرين مع مسؤولين في السفارة الإيرانية عام 2012.
وأعلنت «الشاباك» أنه جرى تجنيده فعلياً من قبل الاستخبارات الإيرانية للعمل كجاسوس. أظهرت التحقيقات أنه قدّم معلومات مهمة حول مسؤولين أمنيين إسرائيليين، وبنى تحتية حساسة، وسوق الطاقة، وقواعد عسكرية ومدنية. وذكرت وسائل إعلام إسرائيلية أنه استخدم أنظمة اتصال مشفرة وعقد لقاءات في فنادق وشقق في دول مختلفة لنقل البيانات. كما حاول تقديم بعض العملاء الإيرانيين لمسؤولين إسرائيليين تحت غطاء «رجل أعمال». هذه القضية شكّلت ضربة قاسية للكيان، لأن المتورط لم يكن مواطناً عادياً، بل وزيراً سابقاً مطلعاً على البنية الأمنية الإسرائيلية.
قضية روعي مزراحي وألموغ أتياس: يشكل هذان الشابان (24 عاماً) من مدينة نِشر قرب حيفا أحد الأمثلة الواضحة على تجنيد إيران للإسرائيليين. بدأت مهماتهما بالتقاط صور للمنازل ولوحات بيع السيارات وكتابة رسائل مناهضة للحكومة، ثم تطورت لاحقاً إلى تركيب كاميرات وجمع معلومات عن مسؤولين وقواعد عسكرية. وقد لعبت الأزمات الهوياتية وانعدام الثقة بالكيان دوراً محورياً في انجذابهما للتجنيد.
قضية باسم وطاهر صفدي: هذه أيضاً من القضايا المهمة، حيث اتُّهم الأب وابنه من قرية درزية في مسعدة بالتعاون مع إيران. وقد جمع طاهر، بإرشاد والده، معلومات عن تحركات الجيش الإسرائيلي في الجولان وأرسلها لصحفي في قناة إيرانية. وتُظهر القضية استغلال إيران للشبكات العائلية والاجتماعية لاختراق البنى المحلية.
قضية رافائيل رووني: رووني، الجندي الإسرائيلي البالغ 21 عاماً، كان يخدم في قاعدة هاتسوريم الاستراتيجية التابعة لسلاح الجو. وقد اعترف الإعلام الإسرائيلي بأن إيران اخترقت معلومات هذه القاعدة. عمل رووني لفترة طويلة مع عناصر إيرانيين، ولم يُبدِ أي ندم، مؤكداً أنه مستعد لفعل أي شيء مقابل المال. ووفق قناة 15 الإسرائيلية، جرى في الأشهر الأخيرة إصدار نحو 50 لائحة اتهام تجسس مرتبطة بإيران، بينها خمس لقوات في الجيش.
قضية شمعون آزارزار: خلال الحرب الـ12 يوماً، اعتُقل شمعون آزارزار (27 عاماً) بتهمة التجسس لصالح إيران. ووفق «سي إن إن»، ارتبط بعناصر إيرانيين لمدة عام عبر الإنترنت وقدم لهم صوراً لمواقع سلاح الجو وقاعدة رامات دافيد ومعلومات دقيقة عن سقوط الصواريخ الإيرانية خلال الحرب، مقابل مبالغ مالية من بينها 333 شيكلاً بالعملات الرقمية.
كان يعمل ضمن شركات متعاقدة مع الجيش والشرطة والصناعات الدفاعية، بل كان يعمل في مبنى مطل على منشأة عسكرية يعتقد أنها قاعدة غليلوت التي تضم وحدة 8200. كما حاول الإيرانيون نقله وزوجته إلى إيران وتوفير وظائف لهما. وأكد الادعاء أنه تعمّد حذف الرسائل لإخفاء الأدلة.
تحليل البيانات والاتجاهات
تشير دراسة لمعهد واشنطن إلى أنّ إيران نفذت ما لا يقل عن 39 عملية تجسس داخل إسرائيل منذ 2013 حتى 2025، 31 منها شملت إسرائيليين. تتراوح أعمار العناصر بين 13 و73 عاماً، وأكثر من نصفهم من الشباب. وتخلص الدراسة إلى أنّ إيران تعتمد مزيجاً من الدوافع المالية، والأيديولوجية، والنفسية، ما جعل شبكتها واسعة ولكن أقل تعقيداً.
وتشير التحليلات الإعلامية والاجتماعية إلى أنّ المجتمع الإسرائيلي يمر بمرحلة انهيار داخلي. فالصراعات الطبقية، والتوترات الدينية والعرقية، وانعدام الثقة بالحكومة، كلها جعلت السكان أكثر عرضة للتجنيد من جهات خارجية.
ردّ الفعل الإسرائيلي ومواجهة الاختراق
جاء الرد الإسرائيلي عبر الاعتقالات والمحاكمات، إضافة إلى حملات توعية مثل حملة «المال السهل، ثمنه غالٍ». ويحاول الكيان الجمع بين الردع القانوني والتوعية الشعبية. لكن الجهات الأمنية تقرّ بأن تهديد إيران لا يزال كبيراً، لأن العنصر البشري هو الحلقة الأضعف وأن الدوافع الشخصية تفتح الباب للاختراق.
التحليل النفسي والاجتماعي للاختراق الإيراني
تُظهر الملفات أنّ إيران تستقطب الأفراد بناء على احتياجات نفسية واجتماعية وسياسية. فالذين يعانون فقدان القيمة أو الضغوط أو المشاكل المالية هم الأكثر قابلية للتجنيد. ويقول الباحثون الإسرائيليون إن المال ليس الدافع الوحيد، بل الحاجة للإثارة والشعور بالتأثير. وتستغل إيران هذه الفراغات النفسية والاجتماعية لبناء شبكات أكثر استقراراً.
يُظهر هذا التحليل النفسي قدرة إيران على استغلال الفراغات النفسية والاجتماعية لتوسيع شبكات التجسس التابعة لها وإدامتها. ويؤدي انهيار الثقة بالنظام والشعور بانعدام الأمن بشأن المستقبل إلى تعميق هذه الفراغات وتهيئة الظروف المناسبة للنفوذ الأجنبي.
الخلاصة
وفق تقرير سارة بوتشز وماثيو ليفيت في معهد واشنطن، فإن إحدى أخطر الخطط كانت محاولة اغتيال بنيامين نتنياهو ووزير الحرب السابق ورئيس الشاباك الأسبق عام 2024. حيث سافر رجل الأعمال موتي ممان مرتين إلى إيران وتركيا مقابل 5000 يورو للمشاركة في المخطط، الذي عُدّ جزءاً من الرد الإيراني على اغتيال قائد حماس.
وتشير الشاباك إلى أن قضايا التجسس المرتبطة بإيران في 2024 ارتفعت بنسبة 400%. وتؤكد شرطة إسرائيل أن إيران استغلت الحرب الأخيرة مع حماس في غزة لتجنيد مزيد من الإسرائيليين.
إن نفوذ إيران داخل إسرائيل مثال على الحروب الظلية المعقدة في عصر المعلومات. استخدام الشبكات الإلكترونية والدوافع المالية واستغلال الضعف الاجتماعي والنفسي يمكّن إيران من توسيع نفوذها. وتُظهر القضايا مثل مزراحي وأتياس والصفدي ورووني أن إيران نجحت في إنشاء حلقات تجسس فاعلة.
وتشير البيانات إلى أنّ المجتمع الإسرائيلي يتفكك من الداخل وأن العديد من مواطنيه لا يثقون بمستقبله، الأمر الذي فتح الباب أمام شبكات التجسس—خصوصاً الإيرانية—لتوسيع نفوذها.
ومن بين 31 قضية تجسس، شملت 20 منها مدفوعات مالية غالباً بعملات رقمية. وقد عرف العديد من العناصر أنهم يعملون لإيران، بينما اعتقد بعضهم أن مهامهم غير مهمة. وتنوعت المهام بين تعليق بوسترات وجمع معلومات وتجريب تجنيد أفراد من العائلة.